Wednesday, July 2, 2008

خيوط السعادة


حين تمضي بنا الأعوام تباعاً، وتدور عجلة الزمان، ونقف على أعتاب الحياة وقد امتزجت بحكمة الشيخوخة بعد أن مضت فتوة الشباب، واختفت الرجولة في دهاليزها أتعجب من أولئك الذين يقطعون أعمارهم، ويمضون في حياتهم سائرين غير عابئين وهم يهنئون بعضهم البعض بيوم الميلاد، أو بقدوم عام جديد وانقضاء عام مضى أتعجب من حالهم وتستوقفني نظراتهم القاصرة للحياة وما عليها ..علام يهنئون بعضهم البعض ؟ وبأي شيء يحتفلون ؟هل يذكر أولئك لحظات السعادة الغامرة التي عاشوها ؟ هل تدوم لهم ؟ هل يستطيعوا أن يجزموا ببقائها ؟ هل يستطيعوا أن يجدوها إذا طلبوها ؟كم من ليال برقت فيها السعادة لكنها ما خلت من العواصف والقوا صم، فهل دام بريقها؟من يستطع أن يجد السعادة متى اشتاق لها ومتى تهفو إليها نفسه ؟هل يضمن أن يصبح مبتهجاً كما أمسى ؟أم هل يضمن أن يمسي سعيداً كما أصبح ؟ما وجدت على ظهر الأرض أسعد من أولئك الذين تحللوا من الدنيا وجعلوها في أيديهم ولم تلامس شغاف قلوبهم، ما عرفوا الحسرة وما تجرعوا الندم ، وما بكوا على فائت أضحى في طي النسيان، إن أتتهم الدنيا كانت مطيتهم إلى الله، سخروها لطاعته،وإن أعطتهم الدنيا ظهرها وولت مدبرة استراحت نفوسهم...إن ناموا غطوا في نوم عميق، وإن انتبهوا انتبهوا شاكرين..
هل يدوم في الحياة نعيم، هل تشيخ النعمة مع أربابها ؟ هل يبقى حال أم أن كل أمر إلى زوال؟
إن لامني أحد على نظرتي فليأتني ببينة كفلق الصبح، أو كضوء الشمس في رابعة النهار حتى أغير من مسلماتي ..هل سمعتم في الدنيا عن رجل تقلب في النعم من المهد إلى اللحد دون منغصات وكدر ؟؟إذا كانت المنغصات تجثم على الصدور، فتبدد ساعات السعادة، وتحيل الأنوار إلى ظلام دامس في لحظة، والراحة والدعة إلى أرق، والسعادة إلى شجن، والقوة إلى ضعف ووهن، والشباب إلى شيخوخة وكهولة، وما منا من أحد إلا ويتقلب بين نعمة محسودة، وألسن لا ترحم، وعيون ترصد ، ولهذا فإن الحكمة تقتضي أن ننشر الحب في ربوع الأرض، لنزيل الضغائن ، ولنفسد المكائد على أصحابها..
إن الحكمة تقتضي أن نخمد نيران الحقد في الصدور، وأن نوقد قناديل الحب بدلاً منها، وأن نحمل رايات بيضاء نظلل بها من حولنا، وأن نمسح دموعنا، وأن نحيا بالأمل، وأن نتخذ الحياة مطية للآخرة الباقية...إذا أردنا السعادة فلنغير من ثوابتنا، ولنقنع بعطاء الله تعالى لنا، إن فعلنا تبدل الحال، واستراحت النفوس، إن فعلنا فلن نجد فقيراً يتمنى زوال نعمة غني، ومريضاً يتمنى زوال صحة صحيح، ففي طيات النعم تكمن المحن، فما أجمل أن نقنع بالعطاء، ونرضى بالقضاء، وأن نلتمس العيش الآمن تحت ظلال رب الأرض والسماء..
إذا هدأت النفوس وتخلصت من شحها وهواها، وتبدلت المفاهيم ، وعادت القيم الجميلة تخيم على البيوت ساعتها ستغرد أطيار السعادة من جديد على كل الربوع، لن نجد بين الناس من ينتظرون حاجة المحتاجين ليسقوهم من سموم الجشع والاحتكار، ولن نجد بين الأطباء من يستغل ضعف مريضه ليبيعه الوهم مع عدم قدرته على الشفاء، ولن نجد أقلاماً تحركها رياح المصالح السياسية فتعبث بمقدرات الشعوب طائعة لهواها وطامحة في كراسي لا تدوم لأحد ،
السعادة تنبع من الداخل، إنه داخل الإنسان الذي يجعله يحلق بأجنحتها ، بعيداً عن كدر الأرض وقد تعلقت الروح بالسماء مترفعة على كل مايجذبها إلى الأرض..إن السعادة الحقيقية التي ننشدها ونرجوها إنما تكون يوم نلقى الله تعالى، وننعم فيها برضوانه، والنظر إلى وجهه الكريم، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (ابراهيم:48) ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود:108) السعادة الحقيقة في دنيا الناس تكمن في استسلامنا المطلق لإرادة الله الغالب، وعدم التمرد على نواميس الكون..السعادة الحقيقة أن نعيش لفكرة، ونموت من أجل غاية نبيلة...السعادة الحقيقة تكمن في تلك الطاقة التي تتفجر بداخل الإنسان لتجعله يحقق ما يصبو إليه ليشعر بالسعادة..
السعادة الحقيقية أن لا تهتم لشيئ فُقِدَ منك، وألا تفرح لشئ حصلت عليه،بمعنى أن يكون المنع والعطاء سواء، لأن مايكدر الصفو هو فقدان مامنحنا الله تعالى إياه فإذا استوت الكفة رجح ميزان السعادة في قلوبنا ..كما أن الأمر ليس متعلقاً بالمال أو الجاه أو السلطان، فكم من مال حرم صاحبة الراحة !وكم من سلطان منع صاحبه النوم !!وكم من جاه جلب لصاحبه الشقاء..
إن فعلنا نكون قد لمسنا خيوط السعادة، وارتشفنا من رحيقها المنتظر ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د.إيهاب فؤاد

2 comments:

Anonymous said...

أستاذى الفاضل الدكتور /إيهاب

أسعدك الله دنيا وآخرة دوماً وأبداً

مقالك كان لى نزهة من السعادة وسط خضم الأحداث الراهنة التى تعلمها أكثر منى لإنقطاعى فى قلب الصحراء .

فكان روضة غناء إرتحت فيها هنئية من الوقت فبارك الله لك وبارك فيك وأسعدك دنيا وآخرة ....
ركنت الوعد الحق مؤقتاً لإستقر فى ضيافتك قليلاً ، بل وربى ركنت الدنيا وما فيها لإستقر مع كلماتك الرائعه
فبارك الله فيك ولك
أخوك فى الله .... المقاتل

د.إيهاب فؤاد said...

الأخ الحبيب المقاتل
أسعدني مرورك، وطوقتني كلماتك، وأخجلني جميل أدبك وحسن خصالك
بارك الله تعالى فيك
وأسعدك الله ما أحياك